خيــــار الناس
عبدالله بن محمد العسكر
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
عمر الإنسان مهما طال فهو في نهاية الأمر يعد قصيراً ، بل وقصيراً جداً مقابل عمر الزمن الطويل .
وكلٌ منا له عمر محدد ، ونهاية محتومة لامحالة ،
و(إن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها )
الراوي: جابر المحدث: المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 3/9
خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]
كما أنه لن يبقى أحدٌ من الخلق إنسهم وجنهم إلا وسيغادر الدنيا
( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)) الأنبياء.
تلك حقائق ثابتة ، ونواميس مستقرة ، وسنن لا يمكن أن تحول أو تزول .
ولكن السؤال هنا : كم مرَّ على هذه الأرض من أناس ، وكم توالت عليها من
أمم وجماعات ، ولكن : من الذي بقي ذكره من هذه الأرتال الهائلة ، والأعداد
الغفيرة من الخلق ؟ ..
إنهم قلائل وأفراد معدودون !!..
أجل هؤلاء هم الذين ذُكروا وحفظت سيرتهم ، لما كان لهم من التأثير في
مجتمعاتهم ، وهذا التأثير قد يكون سلباً أو إيجاباً بطبيعة الحال ؛ لكن
الذكر الحسن والثناء الجميل حتماً لا يكون إلا لأهل السير الحميدة ،
والتأثير الإيجابي .
والسؤال الذي أطرحه على نفسي وعليك أخي الكريم : كم انقضى من أعمارنا ؟ ..
وفي المقابل : ماذا قدمنا لأمتنا وجيلنا ؟! ..
إن الانغماس في الترف ، وطول الأمل ، والتسويف ، والشعور بالإحباط عند
رؤية واقع الأمة وتكالب الأعداء عليها ، كلُّ تلك أسبابٌ لما نراه من عزوف
كثير من المسلمين عن القيام بالدور الفعال ، المتعدي خيره ونفعه للناس .
يضاف إلى ذلك ورعٌ باردٌ ، وفهمٌ خاطئٌ يتعذر به من تكاسلوا في أداء
رسالتهم في الدعوة إلى الله وإبلاغ دينه ، كقول بعضهم : أنا دون أن أصل إلى
مرتبة الدعاة إلى الله !! وعندي من التقصير والذنوب ما يخجلني ويقعدني عن
المشاركة في هذا الباب !! ..
وتلك _ لعمر الله _ الداهية الدهياء ، والجهالة العمياء !! ..
ومن منا يسلم من الذنب والتقصير ؟ ..
ولو كلٌّ منا اتكأ على هذه الحجة لكنا قعيدي بيوتنا ، وأحلاس دورنا !! ..
ولو لم يكن في الناس من هو مذنب
فمن يعظ العاصين بعد محمد ؟!
ذكر القرطبي في تفسيره عن الحسن البصري _ رحمه الله _ أنه قال لمطرف بن
عبدالله : " عظ أصحابك " ، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل . فقال
الحسن: " يرحمك الله !! وأينا يفعل ما يقول ؟! يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا
، فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم ينه أحد عن منكر " !! ..
وقال سعيد بن جبير _ رحمه الله _ : " لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا
ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ ما أمر أحد بمعروف ، ولا نهى أحد عن
منكر " ،
قال الإمام مالك تعليقاً على قول سعيد : " صدق ، من ذا الذي ليس فيه شيء ؟! " ..
إن الواجب على من يشعر من نفسه بالتقصير _ وكلنا كذلك _ أن يضاعف الجهد ،
ويبذل المزيد من الخير والدعوة ونفع الناس ، فلعل تلك الصالحات تغلب
السيئات ، فيكتب عند الله من الفائزين ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ ) هود 114.
وأعظم الحسنات التي تثقل بها موازين العبد إذا لقي ربه غداً : الحسنات
المتعدي نفعها ، والمستمر أجرها . وذلك بدلالة الغير على الخير ، وعدم قصر
ذلك على المرء وحده . فتعليم الجاهل ، ونصرة المظلوم ، والسعي على الأرملة
والمسكين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمشاركة في البرامج
الدعوية التي يصل نفعها لعموم الناس ، كل ذلك من أعظم ما تضاعف به أجور
العبد عند ربه ، ويكون له بها أعظم الذكر والمحبة في قلوب الناس .
ومع أن الداعية لا يجوز أن يطلب بدعوته مدح الناس وثناءهم ، إلا أن الله
جعل له ذلك حتماً : بشارة له في الدنيا ، وتعجيلاً لثوابه وحسن جزائه ( وتلك عاجل بشرة المؤمن )
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2642
خلاصة حكم المحدث: صحيح.
إن
الموفق من عَمَرَ الله حياته بالسعي في تلك السبل المباركة التي يتعدى
نفعها إلى غيره من المسلمين ، فتجري حسناته عليه في حياته ، وربما بعد
مماته ، ولعلها أن تكون إلى قيام الساعة . قال صلى الله عليه وسلم : " من
دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً
" الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2674
خلاصة حكم المحدث: صحيح.
ومثل هؤلاء كأنما عاشوا أبد الدهر لما قدموا من تلك الخيرات .
إن خيار الناس ونبلاءهم هم من يحدثون أثراً إيجابياً في مجتمعاتهم وأمتهم .
فإذا غابوا عن الناس فقدوهم ، وإذا حضروا انتفعوا بهم ، فهم كالغيث أينما
حلَّ نفع . وحين يموتون تضجُّ الدنيا لموتهم ، ويبكيهم كل من عرفهم ، بل
ويبكي لفراقهم الحجر والمدر ، وكل بقعة ذكروا الله عليها .
ولك أن تقارن بين حال هؤلاء وحال أكثر الناس ، الذين ليس لهم أثرٌ ولا قيمة ، سيان بقاؤهم وغيابهم !!
وميتٍ ضجت الدنيا عليه *** وآخر ما تحس له نعياً !!